فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}
ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل.
وإن تعجب قال ابن عباس: وإن تعجبْ من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين، فهذا أعجب.
وقيل: وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد، فهذا أعجب.
قال الزمخشري: وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأنْ يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى.
وليس مدلول اللفظ ما ذكر، لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث، فاتحد الجزاء والشرط، إذ صار التقدير: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب، فليكن من قولهم: أءذا كنا الآية.
وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه: هو إنكار البعث، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء.
ومن كان قادرًا على إبرازها من العدم الصرف كان قادرًا على الإعادة، كما قال تعالى: {وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده} وهو أهون عليه أي: هين عليه.
وقال ابن عطية: هذه الآية توبيخ للكفرة، أي: إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقًا جديدًا.
ويحتمل اللفظ منزعًا آخر: إن كنت تريد عجبًا فهلم، فإنّ من أعجب العجب قولهم انتهى.
واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعًا، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفي العنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والصافات.
وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهامًا، والثاني خبرًا، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع.
وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونًا فقرأ: {إننا لمخرجون} وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرًا، والثاني استفهامًا، إلا في النمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نونًا كالكسائي.
وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب، إلا ابن كثير وحفصًا قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه.
وقولهم: فعجب، هو خبر مقدم ولابد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلابد من قيده وتقديره والله أعلم: فعجب أي عجب، أو فعجب غريب.
وإذا قدرناه موصوفًا جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك.
كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو: اقصد رجلًا خير منه أبوه، لمسوغ الابتداء أيضًا، وهو كونه عاملًا فيما بعده.
وقال أبو البقاء: وقيل عجب بمعنى معجب، قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى.
وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلًا كذبح، وفعلًا كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول، ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه.
وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول.
وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل، والظاهر أن أءذا معمول لقولهم محكى به.
وقال الزمخشري: {أءذا كنا..} إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلًا من {قولهم} انتهى.
هذا إعراب متكلف، وعدول عن الظاهر.
وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره: أنبعث، أو أنحشر.
أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء.
ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم.
والظاهر أنّ الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، كما قال: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل.
وقيل: يحتمل أن يكون مجازًا أي: هم مغلولون عن الإيمان، فتجري إذًا مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا} وكما قال الشاعر:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وقيل: الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر.
ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا: {فأمطر علينا حجارة} وقالوا: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} قال ابن عباس: السيئة العذاب، والحسنة العافية.
وقال قتادة: بالشر قبل الخير. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِن تَعْجَبْ}
يا محمد من شيء: {فَعَجَبٌ} لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب: {قَوْلُهُمْ} بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالى على كل شيء قدير: {أَءذَا كُنَّا تُرَابًا} على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ، وهو في محل الرفعِ على البدلية من {قولهم} على أنه بمعنى المقول أو في محل النصبِ على المفعولية منه على أنه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ في إذا ما دل عليه قوله: {إِءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نُبعث أو نعاد، وتقديمُ الظرف لتقوية الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافيةٍ له، وتكريرُ الهمزة في قولهم: أئنا لتأكيد الإنكارِ، وليس مدارُ إنكارهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم ترابًا بل كونَهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له، وفيه من الدَلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى، وقيل: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم، والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ، وقيل: وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل.
وقد جُوّز كونُ الخطاب لكل من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجبًا ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتَه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه، والأنسبُ بقوله: {ويستعجلونك بالسيئة} هو الأولُ وقوله تعالى: {فَعَجَبٌ} خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمرًا عجيبًا، ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفًا بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه، وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه.
{أولئك} مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون: {الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارَهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر: {وَأُوْلئِكَ} مبتدأ خبرُه قوله: {الأغلال في أعناقهم} أي مقيّدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة: {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الصفات: {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكوّن عنها، وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصةً بل بالجمع المدلولِ عليه بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ}.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره: {قَبْلَ الحسنة} أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها بهم والجملة الحاليةُ لبيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين، والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ، سميت بها لما بينها وبين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المِثال للقِصاص، وقرئ {المُثُلات} بضمتين بإتباع الفاء العين، والمَثْلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال: السَّمْرة، والمُثْلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ: {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ على الحالية أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «لولا عفوُ الله وتجاوزُه ما هنأ لأحد العيشُ ولولا وعيدُه وعقابه لأتَّكَلَ كُلُّ أحد». اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن تَعْجَبْ} أي إن يقع منك عجب يا محمد: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم: {أَءذَا كُنَّا تُرَابًا} إلى آخره فإنه الذي ينبغى أن يتعجب منه، ورفع: {عجب} على أنه خبر مقدم و: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرًا عجيبًا، وفي البحر أنه لابد من تقدير صفة لعجب لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر والله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب، وإذا قدرناه موصوفًا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضركون الخبر معرفة، وذلك كاما قال سيبويه في كم مالك إن كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام، وفي نحو اقصد رجلًا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضًا وهو العمل، ونقل أبو البقاء القول بأن: {عجب} بمعنى معجب ثم قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} به.
وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل و: {عجب} لا يعمل، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ما له ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها.
والظاهر أن: {أَن كُنَّا} إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكى به، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من: {قَوْلُهُمْ} على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان: أعراب متكلف وعدول عن الظاهر، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك، والعامل في: {إِذَا} ما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعث أو نعاد، والجديد ضد الخلق والبالي، ويقال: ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعص بتوجيهه إليه في حالة منافية له، وتكرير الهمزة في: {أئنا} لتأكيد الإنكار، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفخل عند كونهم ترابًا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى.